عندما نقرأ في التاريخ عن امبراطوريات “سادت ثم بادت” وبعضها لم تكن تغيب عنها الشمس، وبعضها كان يقول الحاكم مخاطبا الغيمة أمطري اينما شئتِ فخراجك يصل الى خزانتنا، ونقارن بين اسباب انهيار هذه الامبراطوريات نصل الى سنن تاريخية هي السبب الرئيس في ذلك.
لا نريد الخوص في تفاصيل هذه السنن التاريخية، ولا نريد الخوض في التاريخ، بقدر ما يهمنا من تشبيه الحالة التي تمر بها أميركا باعتبارها اقوى امبراطورية في الوقت الحاضر، إن صح التعبير. فالولايات المتحدة تمر بنفس هذه السنن التاريخية مع فارق بسيط، ولعله بتأثير من عامل السرعة وسرعة الاتصالات والمواصلات، فقد كان عمر الامبراطوريات في غابر الزمن يصل الى القرون، ولكن في عصرنا هذا لا يصل الى القرون، بل الى العقود.
السنة التاريخية الاولى في انهيار الامبراطوريات، تتمثل في الطغيان والعدوان على الآخرين، في محاولة لبسط الهيمنة عليهم، وهذا يؤدي الى ازدياد الاعداء الذين يتربصون بنقاط الضعف، الى ان تؤدي تراكمها الى الانهيار.
ولما خلا الجو للولايات المتحدة بعد انهيار غريمها الاتحاد السوفيتي في 1990، أخذت تنادي بالقطب الواحد المسيطر على العالم، وتصاعدت عنجهيتها وغطرستها، لكن ومثلما هناك قانون في الفيزياء بأن الانبساط يؤدي الى تقليل الضغط الداخلي، فتوسع الولايات المتحدة سبب لها عجزا ماليا هو الاكبر في تاريخها، فبدأت الازمات المالية تعصف بالوضع الاقتصادي، فصحيح ان اميركا اغنى دولة، ولكنها في المقابل تتحمل أكبر الديون، والتي قد تصل الى اضعاف الناتج المحلي.
واذا تتبعنا الاوضاع على الساحة الدولية منذ أربعة عقود وحتى الآن، اي بالضبط منذ ان فقدت اميركا شرطيها في المنطقة المتمثل بنظام الشاهنشاه، وصعود دولة فتية مناهضة تماما للاستكبار العالمي، وتصورت اميركا بعنجهيتها أنها قادرة على القضاء على هذه الثورة الاسلامية، فحاكت ضدها مختلف المؤامرات، ولكن ما شاهدناه ومازلنا نشاهده، هو ازدياد الجمهورية الاسلامية الايرانية قوةً يوما بعد آخر، وفي المقابل تراجع اميركا المستمر. فكأن تلك المؤامرات والمضايقات والقيود والضغوط والحظر، كانت أشبه بتمارين رياضية وإن كانت شاقة وصعبة ولكنها عملت على فتل عضلات هذا الكيان الفتي، فأصبح أصلب عودا مما كان عليه قبل اربعة عقود.
وهناك منافسون آخرون لاميركا، وهم اقوياء، كروسيا والصين. وهنا لابد ان نذكّر بالرسالة التاريخية التي بعثها الامام الخميني (رض) الى غورباتشوف، أثناء انهيار الاتحاد السوفيتي، حذره فيها من مغبة التقرب من الغرب، وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي، عادت الآن روسيا في ظل حكم فلاديمير بوتين، لاستعادة قوتها ولعب دور الغريم لأميركا، فأفشلت روسيا بالتعاون مع ايران وسوريا المؤامرة التي حيكت ضد البلد الاخير. وهذا التعاون طور العلاقات الايرانية الروسية الى مستوى استراتيجي فريد من نوعه.
ولا ينبغي ان ننسى المارد الصيني الناهض، الذي يحاول منافسة اميركا من باب الاقتصاد، حيث يتوقع الخبراء ان تصبح الصين القوة الاقتصادية الاولى في العالم في غضون بضعة سنوات. والآن ومع وجود الحرب التجارية الاميركية الصينية، والحظر المفروض على ايران وروسيا، فليس من المستبعد ان تشكل هذه الدول محورا قويا تجمع فيه قدراتها لمواجهة غطرسة اميركا التي باتت في أضعف حالاتها، خاصة مع وجود تخبطات ترامب وحماقاته.
إذن المسألة مسألة وقت ليس إلا، وسيشهد هذا الجيل او الجيل القادم انهيار اميركا، او اصابتها بضعف شديد، وقد تتفكك الى عدة دول، خاصة مع ضعف الشعور باللحمة الوطنية وتعدد الاثنيات العرقية والتوجهات السياسية المختلفة.