أجمع المسلمون – على اختلاف نحلهم ومذاهبهم – على أفضلية أئمّة أهل البيت (ع) ، وأعلميّتهم ، وسموّ مقامهم ، ورفعة منزلتهم ، وقدسيّة ذواتهم وقرب مكانتهم من الرسول الأعظم (ص) حتّى تنافسوا في الكتابة عنهم ، وذكر أحاديث الرسول الأعظم (ص) فيهم ، وبيان سيرهم ، وأخلاقهم ، وذكر ما ورد من حكمهم وتعاليمهم .
ولا غرو في ذلك بعد أن قرنهم الرسول الأعظم (ص) بالقرآن الكريم ـ كما ورد في حديث الثقلين- ووصفهم النبي(ص) بسفينة نوح التي من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق وهوى ، ومثّلهم بباب حطّة الذي من دخله كان آمناً . الى كثير من أحاديثه (ص) في بيان فضلهم ، والتنويه بعظمة مقامهم .
ونقدّم بعض الانطباعات ممّن عاصر الإمام الكاظم (ع) عنه وممّن تلا عصره :
1 ـ قال عنه الإمام الصادق(ع)
فيه علم الحكم ، والفهم والسخاء والمعرفة فيما يحتاج الناس إليه فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم ، وفيه حسن الخلق ، وحسن الجوار ، وهو باب من أبواب الله عزّ وجلّ .
2 ـ قال هارون الرشيد لإبنه المأمون وقد سأله عنه هذا إمام الناس ، وحجّة الله على خلقه ، وخليفته على عباده.
وقال له أيضاً : يا بنيّ هذا وارث علم النبيين ، هذا موسى بن جعفر ، إن أردت العلم الصحيح فعند هذا .
3 ـ قال المأمون العباسي في وصفه : قد أنهكته العبادة ، كأنه شنّ بال ، قد كلم السجود وجهه وأنفه .
4 ـ كتب عيسى بن جعفر للرشيد : لقد طال أمر موسى بن جعفر ومقامه في حبسي ، وقد اختبرت حاله ووضعت عليه العيون طول هذه المدّة ، فما وجدته يفترعن العبادة، ووضعت من يسمع منه مايقوله في دعائه فما دعا عليك ولا عليّ ، ولا ذكرنا بسوء، وما يدعو لنفسه إلاّ بالمغفرة والرحمة، فإن أنت انفذت اليّ من يتسلّمه مني وإلاّ خليت سبيله ، فإني متحرّج من حبسه .
5 ـ قال أبو علي الخلال ـ شيخ الحنابلة : ما همّني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسّلت به، إلاّ وسهّل الله تعالى لي ما أحبّ .
6 ـ قال أبو حاتم : ثقة صدوق ، إمام من ائمّة المسلمين .
7 – قال الخطيب البغدادي : كان سخيّاً كريماً، وكان يبلغه عن الرجل أنّه يؤذيه، فيبعث إليه بصُرّة فيها ألف دينار، وكان يصرّ الصرر: ثلاثمائة دينار، وأربعمائة دينار، ومائتي دينار ثم يقسّمها بالمدينة، وكان مثل صرر موسى بن جعفر إذا جاءت الإنسان الصرة فقد استغنى .
8 ـ قال ابن الصبّاغ المالكي : وأمّا مناقبه وكراماته الظاهرة، وفضائله وصفاته الباهرة، تشهد له بأنّه افترع قبّة الشرف وعلاها، وسما الى أوج المزايا فبلغ علاها، وذلّلت له كواهل السيادة وامتطاها، وحكم في غنائم المجد فاختار صفاياها فأصطفاها .
9 ـ قال سبط ابن الجوزي : موسى بن جعفر بن محمد ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام)، ويلقّب بالكاظم والمأمون والطيّب والسيّد، وكنيته أبو الحسن، ويدعى بالعبد الصالح لعبادته، واجتهاده وقيامه بالليل .
10 ـ قال كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي : هو الإمام الكبير القدر، العظيم الشأن، الكبير المجتهد الجادّ في الاجتهاد، المشهور بالعبادة، المواظب على الطاعات، المشهور بالكرامات، يبيت الليل ساجدا وقائما، ويقطع النهار متصدّقاً وصائماً، ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين عليه دعي (كاظماً). كان يجازي المسيء باحسانه إليه، ويقابل الجاني بعفوه عنه، ولكثرة عبادته كان يسمّى بـ (العبد الصالح) ويعرف في العراق بــ (باب الحوائج الى الله) لنجح مطالب المتوسّلين الى الله تعالى به . كراماته تحار منها العقول، وتقضي بان له عند الله قدم صدق لا تزال ولا تزول.
الإمام موسى الكاظم في ظلّ أبيه (ع)
لقد تميّزت المرحلة التي نشأ فيها الإمام موسى الكاظم (ع) وعاصرها مع أبيه ـ منذ ولادته سنة (128 هـ ) حتى وفاة أبيه سنة (148 هـ ) بعدّة منعطفات تاريخيّة ونشاطات نوعية من قبل الإمام الصادق (ع) حيث استطاع بقدراته الإلهيّة وحنكته الربانيّة أن يتجاوز تلك التحدّيات ، ويرسم الخط الإلهي الأصيل ويُنجز مهامّ الإمامة ويهيء لولده الإمام الكاظم(ع) الطريق لكي يمارس دوره المستقبلي .
ولمّا كنّا بصدد إلقاء الضوء على أهم ما امتازت به حياة الإمام الكاظم مع أبيه (ع) لنتصوّر من خلالها الأدوار المقبلة له أثناء تصدّيه للإمامة كان من الأهميّة أن نلخّص الظواهر البارزة في هذه المرحلة من حياته مع أبيه (ع) كما يلي :
1 ـ ظاهرة التمرّد على السلطة والاعتقاد بأهميّة الثورة ، والندم على موقف السكوت أمام الباطل ، والدعوة للعلويين الذين يشكّلون الخط المناهض للحكم الاُموي ، فظاهرة التمرّد أفقدت المركزية للسلطة وانتهت الى عدم الطاعة للاُمراء، حتى أصبح شعار الدعوة الى الرّضى من آل محمد (ص) في هذه المرحلة حديث الساعة الذي كان يتداوله الناس هنا وهناك .
وهذه الظاهرة أتاحت للإمام الصادق (ع) أن ينفذ من خلالها لتطبيق برنامجه ما دامت السلطة مشغولة بالاضطرابات التي خلّفتها الثورة الحسينية .
2 ـ في هذه الفترة ظهرت على المسرح السياسي مقدمات نشوء الدولة العبّاسية ، حيث استغلّ العبّاسيون هذه الأجواء وعقدوا اجتماعهم بالأبواء وقرّروا في ظاهر الأمر أن يكون الخليفة محمداً ذا النفس الزكية وروّجوا الدعوة للرّضى من آل محمّد(ص) لكنهم دعوا الناس الى البيعة للعبّاسيين سرّاً، وعيّن إبراهيم الإمام في حينها غلامه أبا مسلم الخراساني قائداً عسكرياً على خراسان وأوصاه بالقتل والإبادة الجماعية والأخذ على الظِنّة والتهمة لخصومه الاُمويين .
وكان موقف الإمام الصادق (ع) من هذه الحركة العبّاسية هو الحياد وعدم المشاركة فيها وعدم دعمها وإخباره وتنبّؤه بنتائجها، مع عدم توفر الظرف الملائم للثورة العلوية وذلك لفقدان الشروط الموضوعية لها ، وقد تجلى ذلك بوضوح من خلال مواقفه(ع) من العروض التي تقدّم بها قادة الدعوة العبّاسية للإمام (ع) أمثال أبي سلمة وأبي مسلم الخراساني حيث صرّح لهم مرّة بأن الزمان ليس بزمانه، ومرّة اُخرى أحرق الرسالة التي وصلته من أحدهم. لقد كانت عروضاً سياسيّة مصلحية وكان الإمام(ع) يدرك خلفيّاتها. وبهذا تخلّص الإمام(ع) من هذه المنزلقات وخلّص شيعته ليفتح لهم آفاقاً أرحب للعمل والجهاد في سبيل الله تعالى .