ألم يكن بالإمكان التخلي عن هذا التشريع؟
ألم يكن بالإمكان جعل الإسلام دين سلام ومحبة بدلاً من دين الحرب والقتال؟
ألم يكن بالإمكان نشر تعاليم الدين الإسلامي وإقناع الناس بها دون اللجوء إلى السيف؟
وأمثال ذلك من الأسئلة التي تفترض معالجة موضوع الجهاد وفق الآيات القرآنية التي وردت في هذا الشأن.
مقدمات لا بد منها
وفي البداية، لا بد من الإشارة إلى الخدعة الكبرى التي يلجأ إليها الطواغيت، خاصة في العصر الحاضر، فإن أكبر دعاة الحرب وأكثرهم عدوانية وظلماً في العالم المعاصر يلبسون إعلامياً لبوس السلام، ويزعمون أن حروبهم العدوانية والتوسعية إنما هي من أجل السلام وفي خدمته، بينما نجدهم ينعتون المدافعين عن حقوقهم المشروعة والمقاومين لمشاريعهم العدوانية والتوسعية بالإرهاب والعدوان.
وقبل الدخول في عرض الآيات القرآنية لابد من تلخيص جملة مقدمات في نقاط:
أولاً: الأديان السماوية والأعراف البشرية في مختلف الأزمنة والأمكنة تعترف بحق الأفراد والجماعات والأقوام والأمم بالدفاع عن الأنفس والأموال إذا تعرضت للاعتداء والظلم، بل الدفاع عن الحقوق المعنوية كالحرية الفكرية والاستقلال والشرف والكرامة، وهم يبذلون في سبيل حمايتها الكثير من الغالي والنفيس.
والحرب الدفاعية الهادفة إلى دفع الظلم والعدوان واسترجاع الحقوق، وحفظ الاستقلال وحماية الأموال والأنفس، وصيانة الشرف، هي حرب مقدسة في نظر الدين والإنسان بشكل عام.
{فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} البقرة /191.
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} الحج /39.
ثانياً: العدوان مستقبح والظلم مرفوض، وقد جاءت الأديان الإلهية ومنها الإسلام لترفض ذلك وتحرر الإنسان من الظلم ولترسي دعائم العدالة الاجتماعية، وهذا أيضاً من المسلّمات.
{وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} البقرة /190.
ثالثاً: امتلاك القوة والسلاح والاستعداد لمواجهة الظلم المفترض والمحتمل من شأنه أن يحدث منعة وحصانة يحول في كثير من الأحيان دون تحقيق الظالم لأطماعه، بل ربما ردعته عن التفكير بالإقدام على العدوان، وعليه، فإن الإعداد والاستعداد إذا لم يدفع إلى العدوانية أمر مستحسن وضروري جداً.
{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}الأنفال/60.
رابعاً: عندما بُعث رسول الله (ص) في مكة المكرمة قضى ثلاثة عشر عاماً يدعو الناس إلى الإسلام وإلى عبادة الله ونبذ عبادة الحجر والبشر، وتعرض هو والذين آمنوا معه لأشد أنواع الاضطهاد والأذى حتى اضطر إلى الهجرة عن مكة دون أن يؤذن له بالقتال.
خامساً: إن أول آية شرعت الجهاد وقتال المشركين جاءت صريحة بأنها حرب دفاعية لمواجهة الظلم.
فقد قيل أن أول إذن بالجهاد كان في قوله تعالى:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ… } [الحج/39-40].
وقيل أن أول آية في القتال هي قوله تعالى:
{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ..}. [البقرة/ 190-191].
في الآية الأولى علّل الإذن بدفع الظلم، وجاء بعد أن أُخرِجوا من ديارهم واعتدي على أهم حق من حقوقهم وهو عبادة ربهم.
أما الثانية، فقد حصرت الأمر بالذين يقاتلونهم، الأمر الذي يجعل الحرب دفاعية بالكامل، وقد منعت من الاعتداء الذي هو قتال من لم يقاتل، وجاءت الآية التالية لتشير إلى أن القتال إنما هو لدفع الظلم واستعادة الحقوق.
سادساً: هذه القاعدة أو هذا الأصل لم يتغير بعد ذلك في كافة الآيات النازلة في القتال والحرب. وهذا ما سنستعرضه من خلال البحث الآتي:
آيات القتال
يمكن تقسيم آيات القتال في القرآن الكريم إلى طوائف:
الطائفة الأولى: الآيات المطلقة:
1- {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}. [التوبة/73].
2- {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ}. [النساء/74].
3- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً}. [التوبة/123].
الطائفة الثانية: الآيات المقيَّدة، وهي موزعة على قيود:
1- آيات مقيّدة برد العدوان
– {فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ}. [البقرة/191].
– {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً}. [التوبة/36].
– {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ}.[البقرة/190].
– (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ..}.[المائدة/33].
2- آيات مقيّدة بنقض العهود والأيمان
– {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ}.[الأنفال/58].
– {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}. [التوبة/12].
3- آيات مقيّدة بالبغي
– {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ…}. [الحجرات/9].
4- آية مقيَّدة بدفع الجزية أو هي مغياة بذلك
– {َاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}. [التوبة/ 29].
الجمع بين الآيات
مقتضى الجمع بين الآيات هو تقييد الآيات في الطائفة الأولى بالمجموعة الأولى والثانية من الطائفة الثانية، حيث يكون الإذن بالقتال لردع المعتدين ومواجهة الظلم والخيانة ونقض العهود، وعليه تحمل الآيات التي تحرض على القتال والتي تتحدث عن فضل المجاهدين وتحث على الجهاد، فإن المتتبع لسيرة الرسول (ص) الجهادية يجده في كل حلقات جهاده قد حارب دفاعاً كما سنعرضه في القسم الثاني من هذا البحث.
أما القتال لدفع البغي وردع الباغي، فلا يفرّق فيه بين بغي الكفار وبغي المسلمين إذا لم يندفع إلا بالقتال كما هو صريح الآية المتقدمة.
يبقى لدينا آية واحدة وهي الآية الأخيرة الواردة في قتال أهل الكتاب، والتي تبدو للوهلة الأولى أنها توجب قتال أهل الكتاب حتى يؤمنوا أو يؤدوا الجزية أو يقتلوا، وهي وإن كانت مغياة بذلك، إلا أن الكلام في استفادة الوجوب المطلق من ناحية القيود الواردة في الآيات السابقة، أي متى يجب قتالهم؟
هل لمجرد الامتناع عن الإيمان؟
أم عند خيانتهم وتآمرهم واعتدائهم؟
خاصة أن من الآيات القرآنية ما هو صريح في اعتماد أساليب الإقناع في الدعوة كما في قوله تعالى:
{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.[النحل/125].
ومن المعلوم أن الإيمان لا يمكن أن يتحقق بالإكراه.
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}. [البقرة/256]،
{أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) [يونس/99].
وقد ذهب البعض إلى أن آية قتال أهل الكتاب باعتبارها متأخرة نزولاً (نزلت مع سورة براءة بعد فتح مكة في سنة تسع للهجرة) فهي ناسخة لما سبقها.
إلا أنه يمكن القول بأنها غير ناسخة وإنما جاءت في شروط خارجية معروفة بعد أن تآمرت قبائل اليهود مع المشركين ونكثوا العهود والمواثيق، وكذلك فعل غيرهم ممن لم يعجبه انتشار الإسلام وتعاظم دوره في الجزيرة حتى أن الخارجين عن حدود الجزيرة بدأوا تحركاً لمهاجمة الدولة الفتية، مما دفع الرسول (ص) للخروج إلى تبوك.
هذه الظروف يمكن أن تشكل قرينة تمنع الإطلاق.
ومهما يكن، فإذا كان الجهاد الابتدائي الذي يقصد منه الدعوة إلى الإسلام – كما يقال- مشروطاً بحضور الإمام المعصوم على رأي المشهور، فإنه هو الذي يبين الحكم الشرعي عندئذٍ، فينحصر البحث في زمان غيبته بالجهاد الدفاعي، إلا إذا اعتبرنا أن الفقيه الجامع لشرائط الولاية والنيابة العامة يقوم مقام الإمام المعصوم في الجهاد الابتدائي أيضاً.
والذي يهوّن علينا البحث أن أعداء الدين الإسلامي لم يؤلوا جهداً في محاربة الإسلام واضطهاد المسلمين والسعي الدؤوب لفتنتهم عن دينهم والإيقاع بينهم والاستيلاء على ثرواتهم وسلبهم حرياتهم وغير ذلك من صنوف الظلم والعدوان.
ومن هنا، جاء الحث على الجهاد والتشجيع على الإعداد والاستعداد، فإن في الدفاع ما يكفي لهذا الكم الهائل من الآيات التي تأمر بالجهاد وتدعو إليه وتبين أهميته وتظهر الوعد الإلهي للمجاهدين بالنصر والتسديد والإمداد.
دائرة الدفاع لدفع الظلم
ومن الجدير بالذكر هنا أن الدفاع لدفع الظلم له دائرة واسعة تتناول ما يلي:
أولاً: الدفاع عن الثروات المستهدفة والتي يطمع بها الأعداء.
ثانياً: الدفاع عن السيادة والاستقلال والأمن الإجتماعي.
ثالثاً: الدفاع عن الأرض والسماء.
رابعاً: الدفاع عن الحريات، حرية الأفراد، وحرية الأمة وعلى رأسها حرية التفكير وإبداء الأفكار وعرضها.
هذه الحقوق الإنسانية ليس من حق أحد أن يتنازل عنها، ولا أن يفرط بها ولا يمكن لأمة أن تعيش كأمة دون قوة رادعة تحمي هذه الحقوق.
{وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ}. [البقرة/25].
{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}. [الحج/40].
هذه الآية الأخيرة جاءت بعد آية الإذن بالقتال مباشرة والتي علّلت الإذن بالعدوان الواقع:
{ذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ..}. [الحج/39-40].
فالقتال لإزالة العوائق عن طريق الدعوة إلى الله عندما يصر الظالمون على سد الطريق بها ومنع صوت الدعوة من الوصول إلى كافة الناس، مثل هذا القتال يأخذ طابع الدفاع عن الحقوق الإنسانية، لأن من حق كل إنسان أن يسمع نداء الحق.
ويمكن لنا من خلال استعراض السيرة الجهادية لرسول الله (ص) أن نتلمس تفسيراً عملياً لآيات الجهاد.